حياة الرسام فينسنت فان كوخ: حياة مضطربة وإرث فني فريد



من منا لم يسمع اسم هذا العبقري الفنان الذي أثرى فن التصوير التشكيلي بفنه الفريد وموهبته الفذة على الرغم من انه خلال حياته القصيرة رسم ما يقارب 1000 لوحة زيتية خلال 10 سنوات، لكنه لم يبيع سوى لوحة واحدة فقط طوال حياته، وقد بدأ الرسم وهو في عمر متقدم نسبيا حيث كان يبلغ من العمر 27 سنة.

من الفقر إلى الخلود: قصة فنسنت فان جوخ

النشأة والتحولات: من تاجر لوحات إلى فنان تشكيلي

انه رسام هولندي الذي ولد في 30 مارس سنة 1853م في إحدى القرى الصغيرة بهولندا وهي في "جروت زندرت" حيث عاش وترعرع هناك على يد أب قسيس, وبدأ حياته العملية مبكرا بعد تركه لدراسته في سن الخامسة عشرة سنة 1868م لقسوة الحياة والفقر المدعس فبدأ العمل كتاجر في إحدى المحلات بيع اللوحات الفنية في لاهاي والتي كانت أول الخطوات التي جعلت أحاسيسه تميل الى هذا النوع من الفن، الفن التشكيلي، فشاهد لوحات "رامبرانت وغورو وميلي "والذي بالتأكيد كان لهم أثر في حياته على الرغم من انفراده بأسلوبه في الرسم وضربات الفرشاة الفريدة من نوعها حيث أصبح أسلوبه في الرسم مدرسة بجد ذاتها، لكن سرعان ما انتقل الى فرع المحلات بلندن وزار العديد من المعارض والمتاحف الفنية وأعجب بكثير من أعمال الكتاب البريطانيين، وهناك أيضا تعرض لصدمة عاطفية أثرت على نفسيته على المدى الطويل, حيث تعرف على احدى الفتيات هناك لكنها لم تبادله نفس أحاسيسه  فاعترف لها بحبه لكنها سخرت منه فكانت الصدمة الذي أدخلته في حالة من اليأس الغريب والتي أثرت أيضا على عمله في محل بيع اللوحات حيث طرد منها, ثم سرعان ما انتقل الى فرع المحل بباريس فتأثر بالفن الفرنسي الذي كان آنذاك في أوج عصوره الفني وبالأفكار التقدمية الإنسانية الى ان فصل من عمله مرة أخرى سنة 1876م. وهناك بفرنسا تعلم اللاهوت مما جعله لان يضحي واعظ ديني ببلجيكا سنة 1878م ولو لوقت قصير لانه فصل من عمله فيما بعد بسبب عدم احترامه للشكل العام للمهنة ففي بلجيكا تعرف على عالم مختلف بعيدا عن ضوضاء المدينة لكنها ليست ببعيدة عن ضوضاء المناجم والفحم ومشاكل العمال الذين كانوا يعيشون حياة لا يرثى لها بين الفقر والجوع والأعمال الشاقة دون ضمانات ولا رعاية صحية بل تفتقد الى ابسط أساليب الحياة البسيطة فتأثر بمشاكلهم وسرعان ما دأب في مساعدتهم  بكل الوسائل الممكنة الى ان صدم عاطفيا للمرة الثانية في حياته مما زاد من بأسه وحزنه وذلك سنة 1881م.

المعاناة والإبداع: حياة فان جوخ بين الألم والفن

وهنا اي وبعد طرده قام بمراسلة أخيه يشكي له أحزانه ومأساته وضيقه وخنقه من الحياة ، وقد ظل فينسنت بعد طرده قرابة خمس سنوات دون عمل حيث كان يبعث له أخاه" ثيو " المال طيلة العشر السنوات وهي المدة الباقية في حياته، ثم عاد فان كوخ الى بيته "بميون" حيث جذبته الشمس وألوان الطبيعة فحمل ريشته فأبدع في لوحاته مرة في رسم لوحة "عباد الشمس" التي أكثر في رسمها بسبب تأثره بالضوء والطبيعة الخلابة للريف والتي كانت زاهية بالألوان ومرة في لوحة "القمح بالقرب من أشجار السَرْو" وهنا بدأ يحيد عن الانطباعية التي كان يتميز بها وبدأ يرسم كل ما يراه ويشعر به من خلال لوحاته التعبيرية, فرسم نفسه أكثر من مرة من خلال انعكاس نفسه في المراة فطلعت الصورة أكثر تعبيرا ووضوحا لحالته النفسية على الرغم من أن هذه الفترة كانت أفضل ما أنتج من أعمال, ثم التحق بالفنان غوغان بجنوب فرنسا بعد مراسلات عدة بينهم فأقاما معا في المرسم لمدة ليست بطويلة ولكن سرعان ما اختلافا بشكل كبير ودخل فان كوخ في نوبة هسترية حيث أصيب بالصرع وهي أول مرة يصاب بها مما فقد وعيه بنفسه فقام بقطع إحدى أذنيه, فاحتجز بملجأ للمرضى العقليين سنة 1889م والذي دخل اليه فيما بعد أكثر من مرة، ومرات أخرى في مستشفيات غيرها كما حاول فينسنت ابتلاع لوحاته الخاصة ,وهناك أنجز أثناءها أشهر لوحاته ومن بينها لوحة "الطبيب غاشي بعيون زرقاء" ولوحة "الكنيسة في أوفيرس" ولوحة "السجناء" الأكثر تعبيرا لتصوير نفسه بين السجناء , وبعد خروجه رسم لوحاته الأخيرة، وكانت أخرها :

"حقول القمح والغربان" على الرغم من ان هناك اختلاف فيما اذا كانت بالفعل هي اخر ما رسمه الفنان فينسنت فان كوخ، فقد أرجحوا الخبراء الفنيين ذلك الى قتامة الالوان والجو الغامق للوحة الرامي الى الحزن والكآبة ولكأنها تعبر عن نفسيته المحطمة والبائسة. 

وبعد غروب الشمس قام  بإطلاق الرصاص على صدره وتوفي منتحرا واضعا حدا لحياته المأسوية عن سن 37 عاما، وقد توفي بعد ذلك بيومين في 29 من يوليو سنة 1890م "وهو يقول لأخيه الذي كان جالسا الى جانبه على السرير"أن الحزن يدوم إلى الأبد ".

وقد رفضت الكنيسة الكاثوليكية في "أوفيرس" السماح له بدفنه في مقبرتها لكونه مات منتحرا الا ان مدينة" ميري" القريبة وافقت على دفنه هناك، وبعد رحيل " فينسنت" بستة شهور فقط توفي أخوه " ثيو فان كوخ " بفرنسا ودفن الى جانبه فيما بعد تحت طلب زوجته سنة 1914 ، لكونه كان مدفونا فيما سبق في "أوتريخت".

الأعمال الخالدة: لوحات فان جوخ التي تجاوزت حياته

على الرغم من أن فان جوخ لم يحظَ بالتقدير والشهرة خلال حياته القصيرة، إلا أن أعماله الفنية الخالدة أصبحت من بين الأكثر تأثيرًا وشهرة في تاريخ الفن. لوحاته، التي تميزت بأسلوبه الفريد والجريء، واستخدامه المكثف للألوان، وضربات فرشاته المميزة، استطاعت أن تتجاوز حدود زمانها ومكانها، لتلامس قلوب الملايين حول العالم. من بين هذه الأعمال الخالدة، نذكر "ليلة النجوم"، "عباد الشمس"، "حقل القمح بالقرب من أشجار السَرْو"، "الليلة المتلألئة"، "ليلة النجوم فوق نهر الرون" ، "أكلوا البطاطس"، "غرفة نوم في آرل"، "مقهى ليلي"، الى جانب مجموعة من البورتريهات الشخصية وغيرها من اللوحات التي تجسد رؤية فان جوخ الفريدة للعالم من حوله. هذه اللوحات، التي تعبر عن مشاعره العميقة وتجاربه الشخصية، استطاعت أن تخلد اسم فان جوخ كواحد من أعظم الفنانين في التاريخ، لتتجاوز حياته القصيرة وتترك إرثًا فنيًا لا يُنسى.

خاتمة: حياة فنان لم يعرف الاستسلام

بهذه الكلمات المؤثرة، يطوي الستار على حياة فنان عظيم، لم يعرف الاستسلام رغم كل الصعاب والتحديات التي واجهته. فنسنت فان جوخ، الذي عانى من الفقر والوحدة والمرض النفسي، لم يتوانَ لحظة عن التعبير عن رؤيته الفنية الفريدة، حتى آخر رمق في حياته. ورغم أن أعماله لم تحظَ بالتقدير الذي تستحقه خلال حياته القصيرة، إلا أنها اليوم تعتبر من بين الأهم والأكثر تأثيرًا في تاريخ الفن. لقد ترك لنا فان جوخ إرثًا فنيًا لا يقدر بثمن، يجسد شغفه بالحياة والطبيعة، ويعكس مشاعره العميقة وتجاربه الإنسانية. كما أن حياته نفسها، بكل ما فيها من معاناة وإبداع، تعتبر قصة ملهمة عن الإصرار والعزيمة، وعن قوة الفن في التعبير عن الذات وتجاوز الصعاب.


المقالة التالية
لا توجد تعليقات
اضـف تعليق
comment url